فصل: الآية رقم ‏(‏164‏)‏

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير القرطبي المسمى بـ «الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان» **


 الآية رقم ‏(‏133‏)‏

‏{‏إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن يشأ يذهبكم ‏}‏يعني بالموت ‏}‏أيها الناس ‏}‏يريد المشركين والمنافقين ‏}‏ويأت بآخرين ‏}‏يعني بغيركم‏.‏ ولما نزلت هذه الآية ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم على ظهر سلمان وقال‏:‏ ‏(‏هم قوم هذا ‏)‏‏.‏ وقيل‏:‏ الآية عامة، أي وإن تكفروا يذهبكم ويأت بخلق أطوع لله منكم‏.‏ وهذا كما قال في آية أخرى‏{‏وإن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم‏}‏محمد‏:‏ 38‏]‏‏.‏ وفي الآية تخويف وتنبيه لجميع من كانت له ولاية وإمارة ورياسة فلا يعدل في رعيته، أو كان عالما فلا يعمل بعلمه ولا ينصح الناس، أن يذهبه ويأتي بغيره‏.‏‏}‏ وكان الله على ذلك قديرا ‏}‏والقدرة صفة أزلية، لا تتناهى مقدوراته، كما لا تتناهى معلوماته، والماضي والمستقبل في صفاته بمعنى واحد، وإنما خص الماضي بالذكر لئلا يتوهم أنه يحدث في ذاته وصفاته‏.‏ والقدرة هي التي يكون بها الفعل ولا يجوز وجود العجز معها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏134‏)‏

‏{‏من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا‏}‏

أي من عمل بما افترضه الله عليه طلبا للآخرة أتاه الله ذلك في الآخرة، ومن عمل طلبا للدنيا أتاه بما كتب له في الدنيا وليس له في الآخرة من ثواب؛ لأنه عمل لغير الله كما قال تعالى‏{‏وما له في الآخرة من نصيب ‏}‏الشورى‏:‏ 20‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار‏}‏هود‏:‏ 16‏]‏‏.‏ وهذا على أن يكون المراد بالآية المنافقون والكفار، وهو اختيار الطبري‏.‏ وروي أن المشركين كانوا لا يؤمنون بالقيامة، وإنما‏.‏ يتقربون إلى الله تعالى ليوسع عليهم في الدنيا ويرفع عنهم مكروهها؛ فأنزل الله عز وجل ‏}‏من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا ‏}‏أي يسمع ما يقولونه ويبصر ما يسرونه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏135‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏كونوا قوامين ‏}‏‏}‏قوامين ‏}‏بناء مبالغة، أي ليتكرر منكم القيام بالقسط، وهو العدل في شهادتكم على أنفسكم، وشهادة المرء على نفسه إقراره بالحقوق عليها‏.‏ ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما، ثم ثنى بالأقربين إذ هم مظنة المودة والتعصب؛ فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه، فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الأموال‏.‏

لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأم ماضية، ولا يمنع ذلك من برهما، بل من برهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل، وهو معنى قوله تعالى‏{‏قوا أنفسكم وأهليكم نارا ‏}‏التحريم‏:‏6‏]‏ فإن شهد لهما أو شهدا له وهي‏:‏

فقد اختلف فيها قديما وحديثا؛ فقال ابن شهاب الزهري‏:‏ كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى‏{‏كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ‏}‏فلم يكن أحد يتهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم‏.‏ ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم، فتركت شهادة من يتهم، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل‏.‏ وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه؛ وكذلك روي عن عمر بن عبدالعزيز، وبه قال إسحاق والثوري والمزني‏.‏ ومذهب مالك جواز شهادة الأخ لأخيه إذا كان عدلا إلا في النسب‏.‏ وروى عنه ابن وهب أنها لا تجوز إذا كان في عياله أو في نصيب من مال يرثه‏.‏ وقال مالك وأبو حنيفة‏:‏ شهادة الزوج لزوجته لا تقبل؛ لتواصل منافع الأملاك بينهما وهي محل الشهادة‏.‏ وقال الشافعي‏:‏ تجوز شهادة الزوجين بعضهما لبعض؛ لأنهما أجنبيان، وإنما بينهما عقد الزوجية وهو معرض للزوال‏.‏ والأصل قبول الشهادة إلا حيث خص فيما عدا المخصوص فبقي على الأصل؛ وهذا ضعيف؛ فإن الزوجية توجب الحنان والمواصلة والألفة والمحبة، فالتهمة قوية ظاهرة‏.‏ وقد روى أبو داود من حديث سليمان بن موسى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد شهادة الخائن والخائنة وذي الغمر على أخيه، ورد شهادة القانع لأهل البيت وأجازها لغيرهم‏.‏ قال الخطابي‏:‏ ذو الغمر الذي بينه وبين المشهود عليه عداوة ظاهرة، فترد شهادته عليه للتهمة‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ شهادته على العدو مقبولة إذا كان عدلا‏.‏ والقانع السائل والمستطعم، وأصل القنوع السؤال‏.‏ ويقال في القانع‏:‏ إنه المنقطع إلى القوم يخدمهم ويكون في حوائجهم؛ وذلك مثل الأجير أو الوكيل ونحوه‏.‏ ومعنى رد هذه الشهادة التهمة في جر المنفعة إلى نفسه؛ لأن القانع لأهل البيت ينتفع بما يصير إليهم من نفع‏.‏ وكل من جر إلى نفسه بشهادته نفعا فشهادته مردودة؛ كمن شهد لرجل على شراء دار هو شفيعها، أو كمن حكم له على رجل بدين وهو مفلس، فشهد المفلس على رجل بدين ونحوه‏.‏ قال الخطابي‏:‏ ومن رد شهادة القانع لأهل البيت بسبب جر المنفعة فقياس قوله أن يرد شهادة الزوج لزوجته؛ لأن ما بينهما من التهمة في جر المنفعة أكثر؛ وإلى هذا ذهب أبو حنيفة‏.‏ والحديث حجة على من أجاز شهادة الأب لابنه؛ لأنه يجر به النفع لما جبل عليه من حبه والميل إليه؛ ولأنه يمتلك ماله، وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنت ومالك لأبيك ‏)‏‏.‏

وممن ترد شهادته عند مالك البدوي على القروي؛ قال‏:‏ إلا أن يكون في بادية أو قرية، فأما الذي يشهد في الحضر بدويا ويدع جيرته من أهل الحضر عندي مريب‏.‏ وقد روى أبو داود والدارقطني عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏لا تجوز شهادة بدوي على صاحب قرية ‏)‏‏.‏ قال محمد بن عبدالحكم‏:‏ تأول مالك هذا الحديث على أن المراد به الشهادة في الحقوق والأموال، ولا ترد الشهادة في الدماء وما في معناها مما يطلب به الخلق‏.‏ وقال عامة أهل العلم‏:‏ شهادة البدوي إذا كان عدلا يقيم الشهادة على وجهها جائزة؛ والله أعلم‏.‏ وقد مضى القول في هذا في ‏}‏البقرة‏}‏، ويأتي في ‏}‏براءة ‏}‏تمامها إن شاء الله تعالى‏.‏

قوله تعالى‏{‏شهداء لله ‏}‏نصب على النعت لـ ‏}‏قوامين‏}‏، وإن شئت كان خبرا بعد خبر‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأجود من هذين أن يكون نصبا على الحال بما في ‏}‏قوامين ‏}‏من ذكر الذين آمنوا؛ لأنه نفس المعنى، أي كونوا قوامين بالعدل عند شهادتكم‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ والحال فيه ضعيفة في المعنى؛ لأنها تخصيص القيام بالقسط إلى معنى الشهادة فقط‏.‏ ولم ينصرف ‏}‏شهداء ‏}‏لأن فيه ألف التأنيث‏.‏

قوله تعالى‏{‏لله ‏}‏معناه لذات الله ولوجهه ولمرضاته وثوابه‏.‏ ‏}‏ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ‏}‏متعلق بـ ‏}‏شهداء ‏}‏؛ هذا هو الظاهر الذي فسر عليه الناس، وإن هذه الشهادة المذكورة هي في الحقوق فيقر بها لأهلها، فذلك قيامه بالشهادة على نفسه؛ كما تقدم‏.‏ أدب الله جل وعز المؤمنين بهذا؛ كما قال ابن عباس‏:‏ أمروا أن يقولوا الحق ولو على أنفسهم‏.‏ ويحتمل أن يكون قوله‏{‏شهداء لله ‏}‏معناه بالوحدانية لله، ويتعلق قوله‏{‏ولو على أنفسكم ‏}‏ب ‏}‏قوامين ‏}‏والتأويل الأول أبين‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما‏}‏ في الكلام إضمار وهو اسم كان؛ أي إن يكن الطالب أو المشهود غنيا فلا يراعى لغناه ولا يخاف منه، وإن يكن فقيرا فلا يراعى إشفاقا عليه‏.‏ ‏}‏فالله أولى بهما ‏}‏أي فيما اختار لهما من فقر وغنى‏.‏ قال السدي‏:‏ اختصم إلى النبي صلى الله عليه وسلم غني وفقير، فكان ضلعه صلى الله عليه وسلم مع الفقير، ورأى أن الفقير لا يظلم الغني؛ فنزلت الآية‏.‏

قوله تعالى‏{‏فالله أولى بهما ‏}‏إنما قال ‏}‏بهما ‏}‏ولم يقل ‏}‏به ‏}‏وإن كانت ‏}‏أو ‏}‏إنما تدل على الحصول الواحد؛ لأن المعنى فالله أولى بكل واحد منهما‏.‏ وقال الأخفش‏:‏ تكون ‏}‏أو‏}‏ بمعنى الواو؛ أي إن يكن غنيا وفقيرا فالله أولى بالخصمين كيفما كانا؛ وفيه ضعف‏.‏ وقيل‏:‏ إنما قال‏{‏بهما‏}‏ لأنه قد تقدم ذكرهما؛ كما قال تعالى‏{‏وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس‏}‏النساء‏:‏12‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا تتبعوا الهوى‏}‏ نهي، فإن اتباع الهوى مرد، أي مهلك؛ قال الله تعالى‏{‏فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ‏}‏ص‏:‏ 26‏]‏ فاتباع الهوى يحمل على الشهادة بغير الحق، وعلى الجور في الحكم، إلى غير ذلك‏.‏ وقال الشعبي‏:‏ أخذ الله عز وجل على الحكام ثلاثة أشياء‏:‏ ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس ويخشوه، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا‏.‏ ‏}‏أن تعدلوا ‏}‏في موضع نصب‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإن تلووا أو تعرضوا‏}‏ قرئ ‏}‏وإن تلووا ‏}‏من لويت فلانا حقه ليا إذا دفعته به، والفعل منه ‏}‏لوى ‏}‏والأصل فيه ‏}‏لوى ‏}‏قلبت الياء ألفا لحركتها وحركة ما قبلها، والمصدر ‏}‏ليا ‏}‏والأصل لويا، وليانا والأصل لويانا، ثم أدغمت الواو في الياء‏.‏ وقال القتبي‏{‏تلووا ‏}‏من اللي في الشهادة والميل إلى أحد الخصمين‏.‏ وقرأ ابن عامر والكوفيون ‏}‏تلوا ‏}‏أراد قمتم بالأمر وأعرضتم، من قولك‏:‏ وليت الأمر، فيكون في الكلام‏.‏ التوبيخ للإعراض عن القيام بالأمر وقيل‏:‏ إن معنى ‏}‏تلوا ‏}‏الإعراض‏.‏ فالقراءة بضم اللام تفيد معنيين‏:‏ الولاية والإعراض، والقراءة بواوين تفيد معنى واحدا وهو الإعراض‏.‏ وزعم بعض النحويين أن من قرأ ‏}‏تلوا ‏}‏فقد لحن؛ لأنه لا معنى للولاية ههنا‏.‏ قال النحاس وغيره‏:‏ وليس يلزم هذا ولكن تكون ‏}‏تلوا ‏}‏بمعنى ‏}‏تلووا ‏}‏وذلك أن أصله ‏}‏تلووا‏}‏ فاستثقلت الضمة على الواو بعدها واو أخرى‏.‏ فألقيت الحركة على اللام وحذفت إحدى الواوين لالتقاء الساكنين؛ وهي كالقراءة بإسكان اللام وواوين؛ ذكره مكي‏.‏ وقال الزجاج‏:‏ المعنى على قراءته ‏}‏وإن تلووا ‏}‏ثم همز الواو الأولى فصارت ‏}‏تلؤوا ‏}‏ثم خففت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام فصارت ‏}‏تلوا ‏}‏وأصلها ‏}‏تلووا‏}‏‏.‏ فتتفق القراءتان على هذا التقدير‏.‏ وذكره النحاس ومكي وابن العربي وغيرهم‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو في الخصمين يجلسان بين يدي القاضي فيكون لي القاضي وإعراضه لأحدهما على الآخر؛ فاللي على هذا مطل الكلام وجره حتى يفوت فصل القضاء وإنفاذه للذي يميل القاضي إليه‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وقد شاهدت بعض القضاة يفعلون ذلك، والله حسيب الكل‏.‏ وقال ابن عباس أيضا والسدي وابن زيد والضحاك ومجاهد‏:‏ هي في الشهود يلوي الشاهد الشهادة بلسانه ويحرفها فلا يقول الحق فيها، أو يعرض عن أداء الحق فيها‏.‏ ولفظ الآية يعم القضاء والشهادة، وكل إنسان مأمور بأن يعدل‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏لي الواجد يحل عرضه وعقوبته ‏)‏‏.‏ قال ابن الأعرابي‏:‏ عقوبته حبسه، وعرضه شكايته‏.‏

وقد استدل بعض العلماء في رد شهادة العبد بهذه الآية؛ فقال‏:‏ جعل الله تعالى الحاكم شاهدا في هذه الآية، وذلك أدل دليل على أن العبد ليس من أهل الشهادة؛ لأن المقصود منه الاستقلال بهذا المهم إذا دعت الحاجة إليه، ولا يتأتى ذلك من العبد أصلا فلذلك ردت الشهادة‏.‏

 الآية رقم ‏(‏136‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا آمنوا‏}‏ الآية‏.‏ نزلت في جميع المؤمنين؛ والمعنى‏:‏ يا أيها الذين صدقوا أقيموا على تصديقكم وأثبتوا عليه‏.‏ ‏}‏والكتاب الذي نزل على رسوله ‏}‏أي القرآن‏.‏ ‏}‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏ أي كل كتاب أنزل على النبيين‏.‏ وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر ‏}‏نزل ‏}‏و ‏}‏أنزل ‏}‏بالضم‏.‏ الباقون ‏}‏نزل ‏}‏و ‏}‏أنزل ‏}‏بالفتح‏.‏ وقيل‏:‏ نزلت فيمن آمن بمن تقدم محمدا صلى الله عليه وسلم من الأنبياء عليهم السلام‏.‏ وقيل‏:‏ إنه خطاب للمنافقين؛ والمعنى على هذا يا أيها الذين آمنوا في الظاهر أخلصوا لله‏.‏ وقيل‏:‏ المراد المشركون؛ والمعنى يا أيها الذين آمنوا باللات والعزى والطاغوت آمنوا بالله؛ أي صدقوا بالله وبكتبه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏137‏)‏

‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا‏}‏

قيل‏:‏ المعنى آمنوا بموسى وكفروا بعزير، ثم آمنوا بعزير ثم كفروا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ إن الذين آمنوا بموسى ثم آمنوا بعزير، ثم كفروا بعد عزير بالمسيح، وكفرت النصارى بما جاء به موسى وآمنوا بعيسى، ثم ازدادوا كفرا بمحمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به من القرآن‏.‏ فإن قيل‏:‏ إن الله تعالى لا يغفر شيئا من الكفر فكيف قال‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ‏}‏فالجواب أن الكافر إذا آمن غفر له كفره، فإذا رجع فكفر لم يغفر له الكفر الأول؛ وهذا كما جاء في صحيح مسلم عن عبدالله قال‏:‏ قال أناس لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رسول الله أنؤاخذ بما عملنا في الجاهلية ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏أما من أحسن منكم في الإسلام فلا يؤاخذ بها ومن أساء أخذ بعمله في الجاهلية والإسلام‏)‏‏.‏ وفي رواية ‏(‏ومن أساء في الإسلام أخذ بالأول والآخر ‏)‏‏.‏ الإساءة هنا بمعنى الكفر؛ إذ لا يصح أن يراد بههنا ارتكاب سيئة، فإنه يلزم عليه ألا يهدم الإسلام ما سبق قبله إلا لمن يعصم من جميع السيئات إلا حين موته، وذلك باطل بالإجماع‏.‏ ومعنى‏{‏ثم ازدادوا كفرا ‏}‏أصروا على الكفر‏.‏ ‏}‏لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا ‏}‏ليرشدهم‏.‏ ‏}‏سبيلا‏}‏ طريقا إلى الجنة‏.‏ وقيل‏:‏ لا يخصهم بالتوفيق يخص أولياءه‏.‏ وفي هذه الآية رد على أهل القدر؛ فإن الله تعالى بين أنه لا يهدي الكافرين طريق خير ليعلم العبد أنه إنما ينال الهدى بالله تعالى، ويحرم الهدى بإرادة الله تعالى أيضا‏.‏ وتضمنت الآية أيضا حكم المرتدين، وقد مضى القول فيهم في ‏}‏البقرة ‏}‏عند قوله تعالى‏{‏ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر ‏}‏البقرة‏:‏ 217‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏138‏)‏

‏{‏بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما‏}‏

التبشير الإخبار بما ظهر أثره على البشرة، وقد تقدم بيانه في ‏}‏البقرة ‏}‏ومعنى النفاق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏139‏)‏

‏{‏الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا‏}‏

قوله تعالى‏{‏الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ‏}‏‏}‏الذين ‏}‏نعت للمنافقين‏.‏ وفي هذا دليل على أن من عمل معصية من الموحدين ليس بمنافق؛ لأنه لا يتولى الكفار‏.‏ وتضمنت المنع من موالاة الكافر، وأن يتخذوا أعوانا على الأعمال المتعلقة بالدين‏.‏ وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها أن رجلا من المشركين لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم يقاتل معه، فقال له‏:‏ ‏(‏ارجع فإنا لا نستعين بمشرك‏)‏‏.‏ ‏}‏العزة‏}‏ أي الغلبة، عزه يعزه عزا إذا غلبه‏.‏ ‏}‏فإن العزة لله جميعا ‏}‏أي الغلبة والقوة لله‏.‏ قال ابن عباس‏{‏أيبتغون عندهم ‏}‏يريد بني قينقاع، فإن ابن أبي كان يواليهم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏140 ‏:‏ 141‏)‏

‏{‏وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا، الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها‏}‏ الخطاب لجميع من أظهر الإيمان من محق ومنافق؛ لأنه إذا أظهر الإيمان فقد لزمه أن يمتثل أوامر كتاب الله‏.‏ فالمنزل قوله تعالى‏{‏وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ‏}‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏‏.‏ وكان المنافقين يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن‏.‏ وقرأ عاصم ويعقوب ‏}‏وقد نزل ‏}‏بفتح النون والزاي وشدها؛ لتقدم اسم الله جل جلاله في قوله تعالى‏{‏فإن العزة لله جميعا‏}‏‏.‏ وقرأ حميد كذلك، إلا أنه خفف الزاي‏.‏ الباقون ‏}‏نزل ‏}‏غير مسمى الفاعل‏.‏ ‏}‏أن إذا سمعتم آيات الله ‏}‏موضع ‏}‏أن إذا سمعتم ‏}‏على قراءة عاصم ويعقوب نصب بوقوع الفعل عليه‏.‏ وفي قراءة الباقين رفع؛ لكونه اسم ما لم يسم فاعله‏.‏ ‏}‏يكفر بها ‏}‏أي إذا سمعتم الكفر والاستهزاء بآيات الله؛ فأوقع السماع على الآيات، والمراد سماع الكفر والاستهزاء؛ كما تقول‏:‏ سمعت عبدالله يلام، أي سمعت اللوم في عبدالله‏.‏

قوله تعالى‏{‏فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره‏}‏ أي غير الكفر‏.‏ ‏}‏إنكم إذا مثلهم ‏}‏فدل بهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر؛ لأن من لم يجتنبهم فقد رضي فعلهم، والرضا بالكفر كفر؛ قال الله عز وجل‏{‏إنكم إذا مثلهم‏}‏‏.‏ فكل من جلس في مجلس معصية ولم ينكر عليهم يكون معهم في الوزر سواء، وينبغي أن ينكر عليهم إذا تكلموا بالمعصية وعملوا بها؛ فإن لم يقدر على النكير عليهم فينبغي أن يقوم عنهم حتى لا يكون من أهل هذه الآية‏.‏ وقد روي عن عمر بن عبدالعزيز رضى الله عنه أنه أخذ قوما يشربون الخمر، فقيل له عن أحد الحاضرين‏:‏ إنه صائم، فحمل عليه الأدب وقرأ هذه الآية ‏}‏إنكم إذا مثلهم ‏}‏أي إن الرضا بالمعصية معصية؛ ولهذا يؤاخذ الفاعل والراضي بعقوبة المعاصي حتى يهلكوا بأجمعهم‏.‏ وهذه المماثلة ليست في جميع الصفات، ولكنه إلزام شبه بحكم الظاهر من المقارنة؛ كما قال‏:‏

فكل قرين بالمقارن يقتدي

وقد تقدم‏.‏ وإذا ثبت تجنب أصحاب المعاصي كما بينا فتجنب أهل البدع والأهواء أولى‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ قوله تعالى‏{‏فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره ‏}‏نسخ بقوله تعالى‏{‏وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ‏}‏الأنعام‏:‏ 69‏]‏‏.‏ وقال عامة‏.‏ المفسرين‏:‏ هي محكمة‏.‏ وروى جويبر عن الضحاك قال‏:‏ دخل في هذه الآية كل محدث في الدين مبتدع إلى يوم القيامة‏.‏

قوله تعالى‏{‏إن الله جامع المنافقين‏}‏ الأصل ‏}‏جامع‏}‏ بالتنوين فحذف استخفافا؛ فإنه بمعنى يجمع‏.‏‏}‏ الذين يتربصون بكم ‏}‏يعني المنافقين، أي ينتظرون بكم الدوائر‏.‏ ‏}‏فإن كان لكم فتح من الله ‏}‏أي غلبة على اليهود وغنيمة‏.‏ ‏}‏قالوا ألم نكن معكم ‏}‏أي أعطونا من الغنيمة‏.‏ ‏}‏وإن كان للكافرين نصيب‏}‏ أي ظفر‏.‏ ‏}‏قالوا ألم نستحوذ عليكم ‏}‏أي ألم نغلب عليكم حتى هابكم المسلمون وخذلناهم عنكم‏.‏ يقال‏:‏ استحوذ على كذا أي غلب عليه؛ ومنه قوله تعالى‏{‏استحوذ عليهم الشيطان ‏}‏المجادلة‏:‏ 19‏]‏‏.‏ وقيل‏:‏ أصل الاستحواذ الحوط؛ حاذه يحوذه حوذا إذا حاطه‏.‏ وهذا الفعل جاء على الأصل، ولو أعل لكان ألم نستحذ، والفعل على الإعلال استحاذ يستحيذ، وعلى غير الإعلال استحوذ يستحوذ‏.‏ ‏}‏ونمنعكم من المؤمنين ‏}‏أي بتخذيلنا إياهم عنكم، وتفريقنا إياهم مما يريدونه منكم‏.‏ والآية تدل على أن المنافقين كانوا يخرجون في الغزوات مع المسلمين ولهذا قالوا‏:‏ ألم نكن معكم ‏؟‏ وتدل على أنهم كانوا لا يعطونهم الغنيمة ولهذا طلبوها وقالوا‏:‏ ألم نكن معكم ‏!‏ ويحتمل أن يريدوا بقولهم ‏}‏ألم نكن معكم ‏}‏الامتنان على المسلمين‏.‏ أي كنا نعلمكم بأخبارهم وكنا أنصارا لكم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}‏للعلماء فيه تأويلات خمس‏:‏

أحدها‏:‏ ما روي عن يسيع الحضرمي قال‏:‏ كنت عند علي بن أبي طالب رضي الله عنه فقال له رجل يا أمير المؤمنين، أرأيت قول الله‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}‏كيف ذلك، وهم يقاتلوننا ويظهرون علينا أحيانا ‏!‏ فقال علي رضي الله عنه‏:‏ معنى ذلك يوم القيامة يوم الحكم‏.‏ وكذا قال ابن عباس‏:‏ ذاك يوم القيامة‏.‏ قال ابن عطية‏:‏ وبهذا قال جميع أهل التأويل‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا ضعيف‏:‏ لعدم فائدة الخبر فيه، وإن أوهم صدر الكلام معناه؛ لقوله تعالى‏{‏فلله يحكم بينكم يوم القيامة‏}‏ فأخر الحكم إلى يوم القيامة‏.‏ وجعل الأمر في الدنيا دولا تغلب الكفار تارة وتغلب أخرى؛ بما رأى من الحكمة وسبق من الكلمة‏.‏ ثم قال‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا‏}‏ فتوهم من توهم أن آخر الكلام يرجع إلى أوله، وذلك يسقط فائدته، إذ يكون تكرارا‏.‏

الثاني‏:‏ إن الله لا يجعل لهم سبيلا يمحو به دولة المؤمنين، ويذهب آثارهم ويستبيح بيضتهم؛ كما جاء في صحيح مسلم من حديث ثوبان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏وإني سألت ربي ألا يهلكها بسنة عامة وألا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني قد أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة وألا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ‏)‏‏.‏

الثالث‏:‏ إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا منه إلا أن يتواصوا بالباطل ولا يتناهوا عن المنكر ويتقاعدوا عن التوبة فيكون تسليط العدو من قبلهم؛ كما قال تعالى‏{‏وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ‏}‏الشورى‏:‏ 30‏]‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وهذا نفيس جدا‏.‏

قلت‏:‏ ويدل عليه قوله عليه السلام في حديث ثوبان ‏(‏حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا ‏)‏ وذلك أن ‏}‏حتى ‏}‏غاية؛ فيقتضي ظاهر الكلام أنه لا يسلط عليهم عدوهم فيستبيحهم إلا إذا كان منهم إهلاك بعضهم لبعض، وسبي بعضهم لبعض، وقد وجد ذلك في هذه الأزمان بالفتن الواقعة بين المسلمين؛ فغلظت شوكة الكافرين واستولوا على بلاد المسلمين حتى لم يبق من الإسلام إلا أقله؛ فنسأل الله أن يتداركنا بعفوه ونصره ولطفه‏.‏

الرابع‏:‏ إن الله سبحانه لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا شرعا؛ فإن وجد فبخلاف الشرع‏.‏

الخامس‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}‏أي حجة عقلية ولا شرعيه يستظهرون بها إلا أبطلها ودحضت‏.‏

ابن العربي‏:‏ ونزع علماؤنا بهذه الآية في الاحتجاج على أن الكافر لا يملك العبد المسلم‏.‏ وبه قال أشهب والشافعي‏:‏ لأن الله سبحانه نفى السبيل للكافر عليه، والملك بالشراء سبيل، فلا يشرع له ولا ينعقد العقد بذلك‏.‏ وقال ابن القاسم عن مالك، وهو قول أبي حنيفة‏:‏ إن معنى ‏}‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}‏في دوام الملك؛ لأنا نجد الابتداء يكون له عليه وذلك بالإرث‏.‏ وصورته أن يسلم عبد كافر في يد كافر فيلزم القضاء عليه ببيعه، فقبل الحكم عليه ببيعه مات، فيرث العبد المسلم وارث الكافر‏.‏ فهده سبيل قد ثبت قهرا لا قصد فيه، وإن ملك الشراء ثبت بقصد النية، فقد أراد الكافر تملكه باختياره، فإن حكم بعقد بيعه وثبوت ملكه فقد حقق فيه قصده، وجعل له سبيل عليه‏.‏ قال أبو عمر‏:‏ وقد أجمع المسلمون على أن عتق النصراني أو اليهودي لعبده المسلم صحيح نافذ عليه‏.‏ وأجمعوا أنه إذا أسلم عبدالكافر فبيع عليه أن ثمنه يدفع إليه‏.‏ فدل على أنه على ملكه بيع وعلى ملكه ثبت العتق له، إلا أنه ملك غير مستقر لوجوب بيعه عليه؛ وذلك والله أعلم لقول الله عز وجل‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا ‏}‏يريد الاسترقاق والملك والعبودية ملكا مستقرا دائما‏.‏

 واختلف العلماء في شراء العبد الكافر العبد المسلم على قولين‏:‏ أحدهما‏:‏ البيع مفسوخ‏.‏ والثاني‏:‏ البيع صحيح ويباع على المشتري‏.‏

واختلف العلماء أيضا من هذا الباب في رجل نصراني دبر عبدا له نصرانيا فأسلم العبد؛ فقال مالك والشافعي في أحد قوليه‏:‏ يحال بينه وبين العبد، ويخارج على سيده النصراني، ولا يباع عليه حتى يتبين أمره‏.‏ فإن هلك النصراني وعليه دين قضي دينه من ثمن العبد المدبر، إلا أن يكون في ماله ما يحمل المدبر فيعتق المدبر‏.‏ وقال الشافعي في القول الآخر‏:‏ إنه يباع عليه ساعة أسلم؛ واختاره المزني؛ لأن المدبر وصية ولا يجوز ترك مسلم في ملك مشرك يذله ويخارجه، وقد صار بالإسلام عدوا له‏.‏ وقال الليث بن سعد‏:‏ يباع النصراني من مسلم فيعتقه، ويكون ولاؤه للذي اشتراه وأعتقه، ويدفع إلى النصراني ثمنه‏.‏ وقال سفيان والكوفيون‏:‏ إذا أسلم مدبر النصراني قوم قيمته فيسعى في قيمته، فإن مات النصراني قبل أن يفرغ المدبر من سعايته عتق العبد وبطلت السعاية‏.‏

 الآية رقم ‏(‏142‏)‏

‏{‏إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم‏}‏ قد مضى في ‏}‏البقرة ‏}‏معنى الخدع‏.‏ والخداع من الله مجازاتهم على خداعهم أولياءه ورسله‏.‏ قال الحسن‏:‏ يعطى كل إنسان من مؤمن ومنافق نور يوم القيامة فيفرج المنافقون ويظنون أنهم قد نجوا؛ فإذا جاؤوا إلى الصراط طفئ نور كل منافق، فذلك قولهم‏{‏انظرونا نقتبس من نوركم ‏}‏الحديد‏:‏ 13‏]‏‏.‏

قوله تعالى‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ أي يصلون مراءاة وهم متكاسلون متثاقلون، لا يرجون ثوابا ولا يعتقدون تركها عقابا‏.‏ وفي صحيح الحديث‏:‏ ‏(‏إن أثقل صلاة على المنافقين العتمة والصبح ‏)‏‏.‏ فإن العتمة تأتي وقد أتعبهم عمل النهار فيثقل عليهم القيام إليها، وصلاة الصبح تأتي والنوم أحب إليهم من مفروح به، ولولا السيف ما قاموا‏.‏

والرياء‏:‏ إظهار الجميل ليراه الناس، لا لاتباع أمر الله؛ وقد تقدم بيانه‏.‏ ثم وصفهم بقلة الذكر عند المراءاة وعند الخوف‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم ذاما لمن أخر الصلاة‏:‏ ‏(‏تلك صلاة المنافقين - ثلاثا - يجلس أحدهم يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان - أو - على قرني الشيطان قام فنقر أربعا لا يذكر الله فيها إلا قليلا ‏)‏ رواه مالك وغيره‏.‏ فقيل‏:‏ وصفهم بقلة الذكر لأنهم كانوا لا يذكرون الله بقراءة ولا تسبيح، وإنما كانوا يذكرونه بالتكبير‏.‏ وقيل‏:‏ وصفه بالقلة لأن الله تعالى لا يقبله‏.‏ وقيل‏:‏ لعدم الإخلاص فيه‏.‏ وهنا  مسألتان‏:‏

الأولى‏:‏ بين الله تعالى في هذه الآية صلاة المنافقين، وبينها رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فمن صلى كصلاتهم وذكر كذكرهم لحق بهم في عدم القبول، وخرج من مقتضى قوله تعالى‏{‏قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ‏}‏المؤمنون‏:‏ 1‏]‏‏.‏ وسيأتي اللهم إلا أن يكون له عذر فيقتصر على الفرض حسب ما علمه النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ للأعرابي حين رآه أخل بالصلاة فقال له‏:‏ ‏(‏إذا قمت إلى الصلاة فأسبغ الوضوء ثم استقبل القبلة ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن ثم اركع حتى تطمئن راكعا ثم ارفع حتى تعتدل قائما ثم اسجد حتى تطمئن ساجدا ثم ارفع حتى تطمئن جالسا ثم افعل ذلك في صلاتك كلها ‏)‏‏.‏ رواه الأئمة‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا صلاة لمن لم يقرأ بأم القرآن‏)‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏(‏لا تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه‏.‏ الركوع والسجود‏)‏‏.‏ أخرجه الترمذي وقال‏:‏ حديث حسن صحيح، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم، يرون أن يقيم الرجل صلبه في الركوع والسجود‏.‏ قال الشافعي وأحمد وإسحاق‏:‏ من لا يقيم صلبه في الركوع والسجود فصلاته فاسدة؛ لحديث النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏تجزئ صلاة لا يقيم الرجل فيها صلبه في الركوع والسجود‏)‏‏.‏ قال ابن العربي‏:‏ وذهب ابن القاسم وأبو حنيفة إلى أن الطمأنينة ليست بفرض‏.‏ وهي رواية عراقية لا ينبغي لأحد من المالكيين أن يشتغل بها‏.‏ وقد مضى في ‏}‏البقرة ‏}‏هذا المعنى‏.‏

الثانية‏:‏ قال ابن العربي‏:‏ إن من صلاة ليراها الناس ويرونه فيها فيشهدون له بالإيمان، أو أراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة جواز الإمامة فليس ذلك بالرياء المنهي عنه، ولم يكن عليه حرج؛ وإنما الرياء المعصية أن يظهرها صيدا للناس وطريقا إلى الأكل، فهذه نية لا تجزئ وعليه الإعادة‏.‏

قلت‏:‏ قوله ‏}‏وأراد طلب المنزلة والظهور لقبول الشهادة ‏}‏فيه نظر‏.‏ وقد تقدم بيانه في ‏}‏النساء‏}‏ فتأمله هناك‏.‏ ودلت هذه الآية على أن الرياء يدخل الفرض والنفل؛ لقول الله تعالى‏{‏وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا ‏}‏فعم‏.‏ وقال قوم‏:‏ إنما يدخل النفل خاصة؛ لأن الفرض واجب على جميع الناس والنفل عرضة لذلك‏.‏ وقيل بالعكس؛ لأنه لو لم يأت بالنوافل لم يؤاخذ بها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏143‏)‏

‏{‏مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا‏}‏

المذبذب‏:‏ المتردد بين أمرين؛ والذبذبة الاضطراب‏.‏ يقال‏:‏ ذبذبته فتذبذب؛ ومنه قول النابغة‏:‏

ألم تر أن الله أعطاك سورة ترى كل ملك دونها يتذبذب

آخر‏:‏

خيال لأم السلسبيل ودونها مسيرة شهر للبريد المذبذب

كذا روي بكسر الذال الثانية‏.‏ قال ابن جني‏:‏ أي المهتز القلق الذي لا يثبت ولا يتمهل‏.‏ فهؤلاء المنافقون مترددون بين المؤمنين والمشركين، لا مخلصين الإيمان ولا مصرحين بالكفر‏.‏ وفي صحيح مسلم من حديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه أخرى ‏)‏ وفي رواية ‏(‏تكر‏)‏ بدل ‏(‏تعير‏)‏‏.‏ وقرأ الجمهور ‏}‏مذبذبين‏}‏ بضم الميم وفتح الذالين‏.‏ وقرأ ابن عباس بكسر الذال الثانية‏.‏ وفي حرف أبي ‏}‏متذبذبين‏}‏‏.‏ ويجوز الإدغام على هذه القراءة ‏}‏مذبذبين‏}‏ بتشديد الذال الأولى وكسر الثانية‏.‏ وعن الحسن ‏}‏مذبذبين‏}‏ بفتح الميم والذالين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏144‏)‏

‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا‏}‏

قوله تعالى‏{‏يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء‏}‏ مفعولان؛ أي لا تجعلوا خاصتكم وبطانتكم منهم؛ وقد تقدم هذا المعنى‏.‏ ‏}‏أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا‏}‏ أي في تعذيبه إياكم بإقامته حجته عليكم إذ قد نهاكم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏145‏)‏

‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏في الدرك‏}‏‏.‏ قرأ الكوفيون ‏}‏الدرك‏}‏ بإسكان الراء، والأولى أفصح؛ لأنه يقال في الجمع‏:‏ أدراك مثل جمل وأجمال؛ قال النحاس‏.‏ وقال أبو علي‏:‏ هما لغتان كالشمع والشمع ونحوه، والجمع أدراك‏.‏ وقيل‏:‏ جمع الدرك أدرك؛ كفلس وأفلس‏.‏ والنار دركات سبعة؛ أي طبقات ومنازل؛ إلا أن استعمال العرب لكل ما تسافل أدراك‏.‏ يقال‏:‏ للبئر أدراك، ولما تعالى درج؛ فللجنة درج، وللنار أدراك‏.‏ وقد تقدم هذا‏.‏ فالمنافق في الدرك الأسفل وهي الهاوية؛ لغلظ كفره وكثرة غوائله وتمكنه من أذى المؤمنين‏.‏ وأعلى الدركات جهنم ثم لظى ثم الحطمة ثم السعير ثم سقر ثم الجحيم ثم الهاوية؛ وقد يسمى جميعها باسم الطبقة الأولى، أعاذنا الله من عذابها بمنه وكرمه‏.‏ وعن ابن مسعود في تأويل قوله تعالى‏{‏في الدرك الأسفل من النار‏}‏ قال‏:‏ توابيت من حديد مقفلة في النار تقفل عليهم‏.‏ وقال ابن عمر‏:‏ إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة‏:‏ المنافقون، ومن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون؛ تصديق ذلك في كتاب الله تعالى، قال الله تعالى‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏‏.‏ وقال تعالى أصحاب المائدة‏{‏فإني أعذبه عذابا لا أعذبه أحدا من العالمين‏}‏المائدة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ وقال في آل فرعون‏{‏أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏غافر‏:‏ 46‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏146‏)‏

‏{‏إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما‏}‏ استثناء ممن نافق‏.‏ ومن شرط التائب‏.‏ من النفاق أن يصلح في قوله وفعله، ويعتصم بالله أي يجعله ملجأ ومعاذا، ويخلص دينه لله؛ كما نصت عليه‏.‏ هذه الآية؛ وإلا فليس بتائب؛ ولهذا أوقع أجر المؤمنين في التسويف لانضمام المنافقين إليهم‏.‏ والله أعلم‏.‏ روى البخاري عن الأسود قال‏:‏ كنا في حلقة عبدالله فجاء حذيفة حتى قام علينا فسلم ثم قال‏:‏ لقد نزل النفاق على قوم خير منكم، قال الأسود‏:‏ سبحان الله ‏!‏ إن الله تعالى يقول‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏‏.‏ فتبسم عبدالله وجلس حذيفة في ناحية المسجد؛ فقام عبدالله فتفرق أصحابه فرماني بالحصى فأتيته‏.‏ فقال حذيفة‏:‏ عجبت من ضحكه وقد عرف ما قلت‏:‏ لقد أنزل النفاق على قوم كانوا خيرا منكم ثم تابوا فتاب الله عليهم‏.‏ وقال الفراء‏:‏ معنى ‏}‏فأولئك مع المؤمنين‏}‏ أي من المؤمنين‏.‏ وقال القتبي‏:‏ حاد عن كلامهم غضبا عليهم فقال‏{‏فأولئك مع المؤمنين‏}‏ ولم يقل‏:‏ هم المؤمنون‏.‏ وحذفت الياء من ‏}‏يؤت‏}‏ في الخط كما حذفت في اللفظ؛ لسكونها وسكون اللام بعدها، ومثله ‏}‏يوم يناد المنادي‏}‏ق‏:‏ 41‏]‏ و‏}‏سندع الزبانية‏}‏العلق‏:‏ 18‏]‏ و‏}‏يوم يدع الداعي‏}‏القمر‏:‏ 6‏]‏ حذفت الواوات لالتقاء الساكنين‏.‏

 الآية رقم ‏(‏147‏)‏

‏{‏ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما‏}‏

استفهام بمعنى التقرير للمنافقين‏.‏ التقدير‏:‏ أي منفعة له في عذابكم إن شكرتم وآمنتم؛ فنبه تعالى أنه لا يعذب الشاكر المؤمن، وأن تعذيبه عباده لا يزيد في ملكه، وتركه عقوبتهم على فعلهم لا ينقص من سلطانه‏.‏ وقال مكحول‏:‏ أربع من كن فيه كن له، وثلاث من كن فيه كن عليه؛ فالأربع اللاتي له‏:‏ فالشكر والإيمان والدعاء والاستغفار، قال الله تعالى‏{‏ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم‏}‏ وقال الله تعالى‏{‏وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون‏}‏الأنفال‏:‏ 33‏]‏ وقال تعالى‏{‏قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم‏}‏الفرقان‏:‏ 77‏]‏‏.‏ وأما الثلاث اللاتي عليه‏:‏ فالمكر والبغي والنكث؛ قال الله تعالى‏{‏فمن نكث فإنما ينكث على نفسه‏}‏الفتح‏:‏ 10‏]‏‏.‏ وقال تعالى‏{‏ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله‏}‏فاطر‏:‏ 43‏]‏ وقال تعالى‏{‏إنما بغيكم على أنفسكم‏}‏يونس‏:‏ 23‏]‏‏.‏ ‏}‏وكان الله شاكرا عليما‏}‏ أي يشكر عباده على طاعته‏.‏ ومعنى ‏}‏يشكرهم‏}‏ يثيبهم؛ فيتقبل العمل القليل ويعطي عليه الثواب الجزيل، وذلك شكر منه على عبادته‏.‏ والشكر في اللغة الظهور، يقال‏:‏ دابة شكور إذا أظهرت من السمن فوق ما تعطى من العلف، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى‏.‏ والعرب تقول في المثل‏{‏أشكر من بروقة‏}‏ لأنها يقال‏:‏ تخضر وتنضر بظل السحاب دون مطر‏.‏ والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏148 ‏:‏ 149‏)‏

‏{‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما، إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا‏}‏

قوله تعالى‏{‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول‏}‏ وتم الكلام‏.‏ ثم قال عز وجل‏{‏إلا من ظلم‏}‏ استثناء ليس من الأول في موضع نصب؛ أي لكن من ظلم فله أن يقول ظلمني فلان‏.‏ ويجوز أن يكون في موضع رفع ويكون التقدير‏:‏ لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء إلا من ظلم‏.‏ وقراءة الجمهور ‏}‏ظلم‏}‏ بضم الظاء وكسر اللام؛ ويجوز إسكانها‏.‏ ومن قرأ ‏}‏ظلم‏}‏ بفتح الظاء وفتح اللام وهو زيد بن أسلم وابن أبي إسحاق وغيرهما على ما يأتي، فلا يجوز له أن يسكن اللام لخفة الفتحة‏.‏ فعلى القراءة الأولى قالت طائفة‏:‏ المعنى لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول إلا من ظلم فلا يكره له الجهر به‏.‏ ثم اختلفوا في كيفية الجهر بالسوء وما هو المباح من ذلك؛ فقال الحسن‏:‏ هو الرجل يظلم الرجل فلا يدع عليه، ولكن ليقل‏:‏ اللهم أعني عليه، اللهم استخرج حقي، اللهم حل بينه وبين ما يريد من ظلمي‏.‏ فهذا دعاء في المدافعة وهي أقل منازل السوء‏.‏ وقال ابن عباس وغيره‏:‏ المباح لمن ظلم أن يدعو على من ظلمه، وإن صبر فهو خير له؛ فهذا إطلاق في نوع الدعاء على الظالم‏.‏ وقال أيضا هو والسدي‏:‏ لا بأس لمن ظلم أن ينتصر ممن ظلمه بمثل ظلمه ويجهر له بالسوء من القول‏.‏ وقال ابن المستنير‏{‏إلا من ظلم‏}‏ معناه؛ إلا من أكره على أن يجهر بسوء من القول كفر أو نحوه فذلك مباح‏.‏ والآية على هذا في الإكراه؛ وكذا قال قطرب‏{‏إلا من ظلم‏}‏ يريد المكره؛ لأنه مظلوم فذلك موضوع عنه وإن كفر؛ قال‏:‏ ويجوز أن يكون المعنى ‏}‏إلا من ظلم‏}‏ على البدل؛ كأنه قال‏:‏ لا يحب الله إلا من ظلم، أي لا يحب الله الظالم؛ فكأنه يقول‏:‏ يحب من ظلم أي يأجر من ظلم‏.‏ والتقدير على هذا القول‏:‏ لا يحب الله ذا الجهر بالسوء إلا من ظلم، على البدل‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ نزلت في الضيافة فرخص له أن يقول فيه‏.‏ قال ابن جريج عن مجاهد‏:‏ نزلت في رجل ضاف رجلا بفلاة من الأرض فلم يضيفه فنزلت ‏}‏إلا من ظلم‏}‏ ورواه ابن أبي نجيح أيضا عن مجاهد؛ قال‏:‏ نزلت هذه الآية ‏}‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم‏}‏ في الرجل يمر بالرجل فلا يضيفه فرخص له أن يقول فيه‏:‏ إنه لم يحسن ضيافته‏.‏ وقد استدل من أوجب الضيافة بهذه الآية؛ قالوا‏:‏ لأن الظلم ممنوع منه فدل على وجوبها؛ وهو قول الليث بن سعد‏.‏ والجمهور على أنها من مكارم الأخلاق وسيأتي بيانها في ‏}‏هود‏}‏ والذي يقتضيه ظاهر الآية أن للمظلوم أن ينتصر من ظالمه - ولكن مع اقتصاد - وإن كان مؤمنا كما قال الحسن؛ فأما أن يقابل القذف بالقذف ونحوه فلا؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ وإن كان كافرا فأرسل لسانك وأدع بما شئت من الهلكة وبكل دعاء؛ كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال‏:‏ ‏(‏اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف‏)‏ وقال‏:‏ ‏(‏اللهم عليك بفلان وفلان‏)‏ سماهم‏.‏ وإن كان مجاهرا بالظلم دعي عليه جهرا، ولم يكن له عرض محترم ولا بدن محترم ولا مال محترم‏.‏ وقد روي أبو داود عن عائشة قال‏:‏ سرق لها شيء فجعلت تدعو عليه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تسبخي عنه‏)‏ أي لا تخففي عنه العقوبة بدعائك عليه‏.‏ وروي، أيضا عن عمرو بن الشريد عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏لي الواجد ظلم يحل عرضه وعقوبته‏)‏‏.‏ قال ابن المبارك‏:‏ يحل عرضه يغلظ له، وعقوبته يحبس له‏.‏ وفي صحيح مسلم ‏(‏مطل الغني ظلم‏)‏‏.‏ فالموسر المتمكن إذا طولب بالأداء ومطل ظلم، وذلك يبيح من عرضه أن يقال فيه‏:‏ فلان يمطل الناس ويحبس حقوقهم ويبيح للإمام أدبه وتعزيره حتى يرتدع عن ذلك؛ حكي معناه عن سفيان، وهو معنى قول ابن المبارك رضي الله عنهما‏.‏

وليس من هذا الباب ما وقع في صحيح مسلم من قول العباس في علي رضي الله عنهما بحضرة عمر وعثمان والزبير وعبدالرحمن بن عوف‏:‏ يا أمير المؤمنين اقض بيني وبين هذا الكاذب الآثم الغادر الخائن‏.‏ الحديث‏.‏ ولم يرد عليه واحد منهم؛ لأنها كانت حكومة، كل واحد منهما يعتقدها لنفسه، حتى أنفذ فيها عليهم عمر الواجب؛ قاله ابن العربي‏.‏ وقال علماؤنا‏:‏ هذا إنما يكون فيما إذا استوت المنازل أو تقاربت، وأما إذا تفاوتت، فلا تمكن الغوغاء من أن تستطيل على الفضلاء، وإنما تطلب حقها بمجرد الدعوى من غير تصريح بظلم ولا غضب؛ وهذا صحيح وعليه تدل الآثار‏.‏ ووجه آخر‏:‏ وهو أن هذا القول أخرجه من العباس الغضب وصولة سلطة العمومة ‏!‏ فإن العم صنو الأب، ولا شك أن الأب إذا أطلق هذه الألفاظ على ولده إنما يحمل ذلك منه على أنه قصد الإغلاظ والردع مبالغة في تأديبه، لا أنه موصوف بتلك الأمور؛ ثم أنضاف إلى هذا أنهم في محاجة ولاية دينية؛ فكان العباس يعتقد أن مخالفته فيها لا تجوز، وأن مخالفته فيها تؤدي إلى أن يتصف المخالف بتلك الأمور؛ فأطلقها ببوادر الغضب على هذه الأوجه؛ ولما علم الحاضرون ذلك لم ينكروا عليه؛ أشار إلى هذا المازري والقاضي عياض وغيرهما‏.‏

فأما من قرأ ‏}‏ظلم‏}‏ بالفتح في الظاء واللام - وهي، قراءة زيد بن أسلم، وكان من العلماء بالقرآن بالمدينة بعد محمد بن كعب القرظي، وقراءة ابن أبي إسحاق والضحاك وابن عباس وابن جبير وعطاء بن السائب - فالمعنى‏:‏ إلا من ظلم في فعل أو قول فاجهروا له بالسوء من القول؛ في معنى النهي عن فعله والتوبيخ له والرد عليه؛ المعنى لا يحب الله أن يقال لمن تاب من النفاق‏:‏ ألست نافقت ‏؟‏ إلا من ظلم، أي أقام على النفاق؛ ودل على هذا قوله تعالى‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏‏.‏ قال ابن زيد‏:‏ وذلك أنه سبحانه لما أخبر عن المنافقين أنهم في الدرك الأسفل من النار كان ذلك جهرا بسوء من القول، ثم قال لهم بعد ذلك‏{‏ما يفعل الله بعذابكم‏}‏النساء‏:‏ 147‏]‏ على معنى التأنيس والاستدعاء إلى الشكر والإيمان‏.‏ ثم قال للمؤمنين‏{‏لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم‏}‏ في إقامته على النفاق؛ فإنه يقال له‏:‏ ألست المنافق الكافر الذي لك في الآخرة الدرك الأسفل من النار ‏؟‏ ونحو هذا من القول‏.‏ وقال قوم‏:‏ معنى الكلام‏:‏ لا يحب الله أن يجهر أحد بالسوء من القول، ثم استثنى استثناء منقطعا؛ أي لكن من ظلم فإنه يجهر بالسوء ظلما وعدوانا وهو ظالم في ذلك‏.‏

قلت‏:‏ وهذا شأن كثير من الظلمة ودأبهم؛ فإنهم مع ظلمهم يستطيلون بألسنتهم وينالون من عرض مظلومهم ما حرم عليهم‏.‏ وقال أبو إسحاق الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون المعنى ‏}‏إلا من ظلم‏}‏ فقال سوءا؛ فإنه ينبغي أن تأخذوا على يديه؛ ويكون الاستثناء ليس من الأول‏.‏

قلت‏:‏ ويدل على هذا أحاديث منها قوله عليه السلام‏:‏ ‏(‏خذوا على أيدي سفهائكم‏)‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏انصر أخاك ظالما أو مظلوما‏)‏ قالوا‏:‏ هذا ننصره مظلوما فكيف ننصره ظالما ‏؟‏ قال‏:‏ ‏(‏تكفه عن الظلم‏)‏‏.‏ وقال الفراء‏{‏إلا من ظلم‏}‏ يعني ولا من ظلم‏.‏

قوله تعالى‏{‏وكان الله سميعا عليما‏}‏ تحذير للظالم حتى لا يظلم، وللمظلوم حتى لا يتعدى الحد في الانتصار‏.‏ ثم أتبع هذا بقوله‏{‏إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء‏}‏ فندب إلى العفو ورغب فيه‏.‏ والعفو من صفة الله تعالى مع القدرة على الانتقام؛ وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ فضل العافين عن الناس‏.‏ ففي هذه الألفاظ اليسيرة معان كثيرة لمن تأملها‏.‏ وقيل‏:‏ إن عفوت فإن الله يعفو عنك‏.‏ روي ابن المبارك قال‏:‏ حدثني من سمع الحسن يقول‏:‏ إذا جئت الأمم بين يدي رب العالمين يوم القيامة نودي ليقم من أجره على الله فلا يقوم إلا من عفا في الدنيا؛ يصدق هذا الحديث قوله تعالى‏{‏فمن عفا وأصلح فأجره على الله‏}‏الشورى‏:‏ 40‏]‏‏.‏

 الآية رقم ‏(‏150 ‏:‏ 151‏)‏

‏{‏إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا، أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا‏}‏

قوله تعالى‏{‏إن الذين يكفرون‏}‏ لما ذكر المشركين والمنافقين ذكر الكفار من أهل الكتاب، اليهود والنصارى؛ إذ كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وبين أن الكفر به كفر بالكل؛ لأنه ما من نبي إلا وقد أمر قومه بالإيمان بحمد صلى الله عليه وسلم وبجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام‏.‏ ومعنى ‏}‏يريدون أن يفرقوا بين الله ورسله‏}‏ أي بين الإيمان بالله ورسله؛ فنص سبحانه على أن التفريق بين الله ورسله كفر؛ وإنما كان كفرا لأن الله سبحانه فرض على الناس أن يعبدوه بما شرع لهم على ألسنة الرسل، فإذا جحدوا الرسل ردوا عليهم شرائعهم ولم يقبلوها منهم، فكانوا ممتنعين من التزام العبودية التي أمروا بالتزامها؛ فكان كجحد الصانع سبحانه، وجحد الصانع كفر لما فيه من ترك التزام الطاعة والعبودية‏.‏ وكذلك التفريق بين رسله في الإيمان بهم كفر‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض‏}‏ وهم اليهود آمنوا بموسى وكفروا بعيسى ومحمد؛ وقد تقدم هذا من قولهم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ويقولون لعوامهم‏:‏ لم نجد ذكر محمد في كتبنا‏.‏ ‏}‏ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا‏}‏ أي يتخذوا بين الإيمان والجحد طريقا، أي دينا مبتدعا بين الإسلام واليهودية‏.‏ وقال‏{‏ذلك‏}‏ ولم يقل ذينك؛ لأن ذلك تقع للاثنين ولو كان ذينك لجاز‏.‏

قوله تعالى‏{‏أولئك هم الكافرون حقا‏}‏ تأكيد يزيل التوهم في إيمانهم حين وصفهم بأنهم يقولون نؤمن ببعض، وأن ذلك لا ينفعهم إذا كفروا برسوله؛ وإذا كفروا برسوله فقد كفروا به عز وجل، وكفروا بكل رسول مبشر بذلك الرسول؛ فلذلك صاروا الكافرين حقا‏.‏ ‏}‏وأعتدنا للكافرين‏}‏ يقوم مقام المفعول الثاني لأعتدنا؛ أي أعتدنا لجميع أصنافهم ‏}‏عذابا مهينا‏}‏ أي مذلا‏.‏

 الآيةرقم ‏(‏152‏)‏

‏{‏والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما‏}‏

يعني به النبي صلى الله عليه وسلم وأمته‏.‏

 الآية رقم ‏(‏153‏)‏

‏{‏يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا‏}‏

سألت اليهود محمدا صلى الله عليه وسلم أن يصعد إلى السماء وهم يرونه فينزل عليهم كتابا مكتوبا فيما يدعيه على صدقه دفعة واحدة، كما أتى موسى بالتوراة؛ تعنتا له صلى الله عليه وسلم؛ فأعلم الله عز وجل أن آباءهم قد عنتوا موسى عليه السلام بأكبر من هذا ‏}‏فقالوا أرنا الله جهرة‏}‏ أي عيانا؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ و‏}‏جهرة‏}‏ نعت لمصدر محذوف أي رؤية جهرة؛ فعوقبوا بالصاعقة لعظم ما جاؤوا به من السؤال والظلم من بعد ما رأوا من المعجزات‏.‏

قوله تعالى‏{‏ثم اتخذوا العجل‏}‏ في الكلام حذف تقديره‏:‏ فأحييناهم فلم يبرحوا فاتخذوا العجل؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏ ويأتي ذكره في ‏}‏طه‏}‏ إن شاء الله‏.‏ ‏}‏من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ أي البراهين والدلالات والمعجزات الظاهرات من اليد والعصا وفلق البحر وغيرها بأنه لا معبود إلا الله عز وجل‏.‏ ‏}‏فعفونا عن ذلك‏}‏ أي عما كان منهم من التعنت‏.‏ ‏}‏وآتينا موسى سلطانا مبينا‏}‏ أي حجة بينة وهي الآيات التي جاء بها؛ وسميت سلطانا لأن من جاء بها قاهر بالحجة، وهي قاهرة للقلوب، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها‏.‏

 الآية رقم ‏(‏154‏)‏

‏{‏ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا‏}‏

قوله تعالى‏{‏ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم‏}‏ أي بسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ منهم، وهو العمل بما في التوراة؛ وقد تقدم رفع الجبل ودخولهم الباب في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ و‏}‏سجدا‏}‏ نصب على الحال‏.‏ وقرأ ورش وحده ‏}‏وقلنا لهم لا تعدوا في السبت‏}‏ بفتح العين من عدا يعدو عدوا وعدوانا وعدوا وعداء، أي باقتناص الحيتان كما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ والأصل فيه وتعتدوا أدغمت التاء في الدال؛ قال النحاس‏:‏ ولا يجوز إسكان العين ولا يوصل إلى الجمع بين ساكنين في هذا، والذي يقرأ به إنما يروم الخطأ‏.‏ ‏}‏وأخذنا منهم ميثاقا غليظا‏}‏ يعني العهد الذي أخذ عليهم في التوراة‏.‏ وقيل‏:‏ عهد مؤكد باليمين فسمي غليظا لذلك‏.‏

 الآية رقم ‏(‏155 ‏:‏ 156‏)‏

‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا، وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ ‏}‏فبما نقضهم‏}‏ خفض بالباء و‏}‏ما‏}‏ زائدة مؤكدة كقوله‏{‏فبما رحمة من الله‏}‏آل عمران‏:‏ 159‏]‏ وقد تقدم؛ والباء متعلقة بمحذوف، التقدير‏:‏ فبنقضهم ميثاقهم لعناهم؛ عن قتادة وغيره‏.‏ وحذف هذا لعلم السامع‏.‏ وقال أبو الحسن علي بن حمزة الكسائي‏:‏ هو متعلق بما قبله؛ والمعنى فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إلى قوله‏{‏فبما نقضهم ميثاقهم‏}‏ قال‏:‏ ففسر ظلمهم الذي أخذتهم الصاعقة من أجله بما بعده من نقضهم الميثاق وقتلهم الأنبياء وسائر ما بين من الأشياء التي ظلموا فيها أنفسهم‏.‏ وأنكر ذلك الطبري وغيره؛ لأن الذين أخذتهم الصاعقة كانوا على عهد موسى، والذين قتلوا الأنبياء ورموا مريم بالبهتان كانوا بعد موسى بزمان، فلم تأخذ الصاعقة الذين أخذتهم برميهم مريم بالبهتان‏.‏ قال المهدوي وغيره‏:‏ وهذا لا يلزم؛ لأنه يجوز أن يخبر عنهم والمراد آباؤهم؛ على ما تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ قال الزجاج‏:‏ المعنى فبنقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم؛ لأن هذه القصة ممتدة إلى قوله‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا‏}‏النساء‏:‏ 160‏]‏‏.‏ ونقضهم الميثاق أنه أخذ عليهم أن يبينوا صفة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فبنقضهم ميثاقهم وفعلهم كذا وفعلهم كذا طبع الله على قلوبهم‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى فبنقضهم لا يؤمنون إلا قليلا؛ والفاء مقحمة‏.‏ و‏}‏كفرهم‏}‏ عطف، وكذا و‏}‏قتلهم‏}‏‏.‏ والمراد ‏}‏بآيات الله‏}‏ كتبهم التي حرفوها‏.‏ و‏}‏غلف‏}‏ جمع غلاف؛ أي قلوبنا أوعية للعلم فلا حاجة بنا إلى علم سوى ما عندنا‏.‏ وقيل‏:‏ هو جمع أغلف وهو المغطى بالغلاف؛ أي قلوبنا في أغطية فلا نفقه ما تقول؛ وهو كقوله‏{‏قلوبنا في أكنة‏}‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ وقد تقدم هذا في ‏}‏البقرة‏}‏ وغرضهم بهذا درء حجة الرسل‏.‏ والطبع الختم؛ وقد تقدم في ‏}‏البقرة‏}‏‏.‏ ‏}‏بكفرهم‏}‏ أي جزاء لهم على كفرهم؛ كما قال‏{‏بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون‏}‏البقرة‏:‏ 88‏]‏ أي إلا إيمانا قليلا أي ببعض الأنبياء، وذلك غير نافع لهم‏.‏ ثم كرر ‏}‏وبكفرهم‏}‏ ليخبر أنهم كفروا كفرا بعد كفر‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى ‏}‏وبكفرهم‏}‏ بالمسيح؛ فحذف لدلالة ما بعده عليه، والعامل في ‏}‏بكفرهم‏}‏ هو العامل في ‏}‏بنقضهم‏}‏ لأنه معطوف عليه، ولا يجوز أن يكون العامل فيه ‏}‏طبع‏}‏‏.‏ والبهتان العظيم رميها بيوسف النجار وكان من الصالحين منهم‏.‏ والبهتان الكذب المفرط الذي يتعجب منه وقد تقدم‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏157 ‏:‏ 158‏)‏

‏{‏وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن وما قتلوه يقينا، بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزا حكيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم‏}‏ كسرت ‏}‏إن‏}‏ لأنها مبتدأة بعد القول وفتحها لغة‏.‏ وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ اشتقاق لفظ المسيح‏.‏ ‏}‏رسول الله‏}‏ بدل، وإن شئت على معنى أعني‏.‏ ‏}‏وما قتلوه وما صلبوه‏}‏ رد لقولهم‏.‏ ‏}‏ولكن شبه لهم‏}‏ أي ألقي شبهه على غيره كما تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ لم يكونوا يعرفون شخصه وقتلوا الذي قتلوه وهم شاكون فيه؛ كما قال تعالى‏{‏وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه‏}‏ والإخبار قيل‏:‏ إنه عن جميعهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنه لم يختلف فيه إلا عوامهم؛ ومعنى اختلافهم قول بعضهم إنه إله، وبعضهم هو ابن الله‏.‏ قاله الحسن‏:‏ وقيل اختلافهم أن عوامهم قالوا قتلنا عيسى‏.‏ وقال من عاين رفعه إلى السماء‏:‏ ما قتلناه‏.‏ وقيل‏:‏ اختلافهم أن النسطورية من النصارى قالوا‏:‏ صلب عيسى من جهة ناسوته لا من جهة لاهوته‏.‏ وقالت الملكانية‏:‏ وقع الصلب والقتل على المسيح بكماله ناسوته ولا هوته‏.‏ وقيل‏:‏ اختلافهم هو أنهم قالوا‏:‏ إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى ‏؟‏ ‏!‏ وإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا ‏؟‏ ‏!‏ وقيل‏:‏ اختلافهم هو أن اليهود قالوا‏:‏ نحن قتلناه؛ لأن يهوذا رأس اليهود هو الذي سعى في قتله‏.‏ وقالت طائفة من النصارى‏:‏ بل قتلناه نحن‏.‏ وقالت طائفة منهم‏:‏ بل رفعه الله إلى السماء ونحن ننظر إليه‏.‏ ‏}‏ما لهم به من علم‏}‏ من زائدة؛ وتم الكلام‏.‏ ثم قال عز وجل‏{‏إلا اتباع الظن‏}‏ استثناء ليس من الأول في موضع نصب، ويجوز أن يكون في موضع رفع على البدل؛ أي ما لهم به من علم إلا اتباع الظن‏.‏ وأنشد سيبويه‏:‏

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

قوله تعالى‏{‏وما قتلوه يقينا‏}‏ قال ابن عباس والسدي‏:‏ المعنى ما قتلوا ظنهم يقينا؛ كقولك‏:‏ قتلته علما إذا علمته علما تاما؛ فالهاء عائدة على الظن‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ ولو كان المعنى وما قتلوا عيسى يقينا لقال‏:‏ وما قتلوه فقط‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وما قتلوا الذي شبه لهم أنه عيسى يقينا؛ فالوقف على هذا على ‏}‏يقينا‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ المعنى وما قتلوا عيسى، والوقف على ‏}‏وما قتلوه‏}‏ و‏}‏يقينا‏}‏ نعت لمصدر محذوف، وفيه تقديران‏:‏ أحدهما‏:‏ أي قالوا هذا قولا يقينا، أو قال الله هذا قولا يقينا‏.‏ والقول الآخر‏:‏ أن يكون المعنى وما علموه علما يقينا‏.‏ النحاس‏:‏ إن قدرت المعنى بل رفعه الله إليه يقينا فهو خطأ؛ لأنه لا يعمل ما بعد ‏}‏بل‏}‏ فيما قبلها لضعفها‏.‏ وأجاز ابن الأنباري الوقف على ‏}‏وما قتلوه‏}‏ على أن ينصب ‏}‏يقينا‏}‏ بفعل مضمر هو جواب القسم، تقديره‏:‏ ولقد صدقتم يقينا أي صدقا يقينا‏.‏ ‏}‏بل رفعه الله إليه‏}‏ ابتداء كلام مستأنف؛ أي إلى السماء، والله تعالى متعال عن المكان؛ وقد تقدم كيفية رفعه في ‏}‏آل عمران‏}‏‏.‏ ‏}‏وكان الله عزيزا‏}‏ أي قويا بالنقمة من اليهود فسلط عليهم بطرس بن استيسانوس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة‏.‏ ‏}‏حكيما‏}‏ حكم عليهم باللعنة والغضب‏.‏

 الآية رقم ‏(‏159‏)‏

‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا‏}‏

قوله تعالى‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ قال ابن عباس والحسن ومجاهد وعكرمة‏:‏ المعنى ليؤمنن بالمسيح ‏}‏قبل موته‏}‏ أي الكتابي؛ فالهاء الأولى عائدة على عيسى، والثانية على الكتابي؛ وذلك أنه ليس أحد من أهل الكتاب اليهود والنصارى إلا ويؤمن بعيسى عليه السلام إذا عاين الملك، ولكنه إيمان لا ينفع؛ لأنه إيمان عند اليأس وحين التلبس بحالة الموت؛ فاليهودي يقر في ذلك الوقت بأنه رسول الله، والنصراني يقر بأنه كان رسول الله‏.‏ وروي أن الحجاج سأل شهر بن حوشب عن هذه الآية فقال‏:‏ إني لأوتى بالأسير من اليهود والنصارى فآمر بضرب عنقه، وأنظر إليه في ذلك الوقت فلا أرى منه الإيمان؛ فقال له شهر بن حوشب‏:‏ إنه حين عاين أمر الآخرة يقر بأن عيسى عبدالله ورسوله فيؤمن به ولا ينفعه؛ فقال له الحجاج‏:‏ من أين أخذت هذا ‏؟‏ قال‏:‏ أخذته من محمد بن الحنفية؛ فقال له الحجاج‏:‏ أخذت من عين صافية‏.‏ وروي عن مجاهد أنه قال‏:‏ ما من أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن بعيسى قبل موته؛ فقيل له‏:‏ إن غرق أو احترق أو أكله السبع يؤمن بعيسى ‏؟‏ فقال‏:‏ نعم ‏!‏ وقيل‏:‏ إن الهاءين جميعا لعيسى عليه السلام؛ والمعنى ليؤمنن به من كان حيا حين نزوله يوم القيامة؛ قال قتادة وابن زيد وغيرهما واختاره الطبري‏.‏ وروى يزيد بن زريع عن رجل عن الحسن في قوله تعالى‏{‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ قال‏:‏ قبل موت عيسى؛ والله إنه لحي عند الله الآن؛ ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون؛ ونحوه عن الضحاك وسعيد‏.‏ بن جبير‏.‏ وقيل‏{‏ليؤمنن به‏}‏ أي بمحمد عليه السلام وإن لم يجر له ذكر؛ لأن هذه الأقاصيص أنزلت عليه والمقصود الإيمان به، والإيمان بعيسى يتضمن الإيمان بمحمد عليه الصلاة والسلام أيضا؛ إذ لا يجوز أن يفرق بينهم‏.‏ وقيل‏{‏ليؤمنن به‏}‏ أي بالله تعالى قبل أن يموت ولا ينفعه الإيمان عند المعاينة‏.‏ والتأويلان الأولان أظهر‏.‏ وروى الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏{‏لينزلن ابن مريم حكما عدلا فليقتلن الدجال وليقتلن الخنزير وليكسرن الصليب وتكون السجدة واحدة لله رب العالمين‏)‏، ثم قال أبو هريرة‏:‏ واقرؤوا إن شئتم ‏}‏وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته‏}‏ قال أبو هريرة‏:‏ قبل موت عيسى؛ يعيدها ثلاث مرات‏.‏ وتقدير الآية عند سيبويه‏:‏ وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به‏.‏ وتقدير الكوفيين‏:‏ وإن من أهل الكتاب إلا من ليؤمنن به، وفيه قبح، لأن فيه حذف الموصول، والصلة بعض الموصول فكأنه حذف بعض الاسم‏.‏

قوله تعالى‏{‏ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا‏}‏ أي بتكذيب من كذبه وتصديق من صدقه‏.‏

 الآية رقم ‏(‏160 ‏:‏ 161‏)‏

‏{‏فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا، وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل وأعتدنا للكافرين منهم عذابا أليما‏}‏

قوله تعالى‏{‏فبظلم من الذين هادوا‏}‏ قال الزجاج‏:‏ هذا بدل من ‏}‏فبما نقضهم‏}‏‏.‏ والطيبات ما نصه في قوله تعالى‏{‏وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر‏}‏الأنعام‏:‏ 146‏]‏‏.‏ وقدم الظلم على التحريم إذ هو الغرض الذي قصد إلى الإخبار عنه بأنه سبب التحريم‏.‏ ‏}‏وبصدهم عن سبيل الله كثيرا‏}‏ أي وبصدهم أنفسهم وغيرهم عن أتباع محمد صلى الله عليه وسلم‏.‏ ‏}‏وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل‏}‏ كله تفسير للظلم الذي تعاطوه، وكذلك ما قبله من نقضهم الميثاق وما بعده؛ وقد مضى في ‏}‏آل عمران‏}‏ أن اختلاف العلماء في سبب التحريم على ثلاثة أقوال هذا أحدها‏.‏

قال ابن العربي‏:‏ لا خلاف في مذهب مالك أن الكفار مخاطبون، وقد بين الله في هذه الآية أنهم قد نهوا عن الربا وأكل الأموال بالباطل؛ فإن كان ذلك خبرا عما نزل على محمد في القرآن وأنهم دخلوا في الخطاب فبها ونعمت، وإن كان خبرا عما أنزل الله على موسى في التوراة، وأنهم بدلوا وحرفوا وعصوا وخالفوا فهل يجوز لنا معاملتهم والقوم قد أفسدوا أموالهم في دينهم أم لا‏؟‏ فظنت طائفة أن معاملتهم لا تجوز؛ وذلك لما في أموالهم من هذا الفساد‏.‏ والصحيح جواز معاملتهم مع رباهم واقتحام ما حرم الله سبحانه عليهم؛ فقد قام الليل القاطع على ذلك قرآنا وسنة؛ قال الله تعالى‏{‏وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم‏}‏المائدة‏:‏5‏]‏ وهذا نص؛ وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم اليهود ومات ودرعه مرهونة عند يهودي في شعير أخذه لعياله‏.‏ والحاسم لداء الشك والخلاف اتفاق الأمة على جواز التجارة مع أهل الحرب؛ وقد سافر النبي صلى الله عليه وسلم إليهم تاجرا، وذلك من سفره أمر قاطع على جواز السفر إليهم والتجارة معهم‏.‏ فإن قيل‏:‏ كان ذلك قبل النبوة؛ قلنا‏:‏ إنه لم يتدنس قبل النبوة بحرام - ثبت ذلك تواترا - ولا اعتذر عنه إذ بعث، ولا منع منه إذ نبئ، ولا قطعه أحد من الصحابة في حياته، ولا أحد من المسلمين بعد وفاته؛ فقد كانوا يسافرون في فك الأسرى وذلك واجب، وفي الصلح كما أرسل عثمان وغيره؛ وقد يجب وقد يكون ندبا؛ فأما السفر إليهم لمجرد التجارة فمباح‏.‏

 الآية رقم ‏(‏162‏)‏

‏{‏كن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما‏}‏

قوله تعالى‏{‏لكن الراسخون في العلم منهم‏}‏ استثنى مؤمني أهل الكتاب؛ وذلك أن اليهود أنكروا وقالوا‏:‏ إن هذه الأشياء كانت حراما في الأصل وأنت تحلها ولم تكن حرمت بظلمنا؛ فنزل ‏}‏لكن الراسخون في العلم‏}‏ والراسخ هو المبالغ في علم الكتاب الثابت فيه، والرسوخ الثبوت؛ وقد تقدم في ‏}‏آل عمران‏}‏ والمراد عبدالله بن سلام وكعب الأحبار ونظراؤهما‏.‏ ‏}‏والمؤمنون‏}‏ أي من المهاجرين والأنصار، أصحاب محمد عليه السلام‏.‏ ‏}‏والمقيمين الصلاة‏}‏ وقرأ الحسن ومالك بن دينار وجماعة‏{‏والمقيمون‏}‏ على العطف، وكذا هو في حرف عبدالله، وأما حرف أبي فهو فيه ‏}‏والمقيمين‏}‏ كما في المصاحف‏.‏ واختلف في نصبه على أقوال ستة؛ أصحها قول سيبويه بأنه نصب على المدح؛ أي وأعني المقيمين؛ قال سيبويه‏:‏ هذا باب ما ينتصب على التعظيم؛ ومن ذلك ‏}‏والمقيمين الصلاة‏}‏ وأنشد‏:‏

وكل قوم أطاعوا أمر سيدهم إلا نميرا أطاعت أمر غاويها

ويروى ‏(‏أمر مرشدهم‏)‏‏.‏

الظاعنين ولما يظعنوا أحدا والقائلون لمن دار نخليها

وأنشد‏:‏

لا يبعدن قومي الذين هم سم العداة وآفة الجزر

النازلين بكل معترك والطيبون معاقد الأزر

قال النحاس‏:‏ وهذا أصح ما قيل في ‏}‏المقيمين‏}‏‏.‏ وقال الكسائي‏{‏والمقيمين‏}‏ معطوف على ‏}‏ما‏}‏‏.‏ قال النحاس قال الأخفش‏:‏ وهذا بعيد؛ لأن المعنى يكون ويؤمنون بالمقيمين‏.‏ وحكى محمد بن جرير أنه قيل له‏:‏ إن المقيمين ههنا الملائكة عليهم السلام؛ لدوامهم على الصلاة والتسبيح والاستغفار، واختار هذا القول، وحكى أن النصب على المدح بعيد؛ لأن المدح إنما يأتي بعد تمام الخبر، وخبر الراسخين في ‏}‏أولئك سنؤتيهم أجرا عظيما‏}‏ فلا ينتصب ‏}‏المقيمين‏}‏ على المدح‏.‏ قال النحاس‏:‏ ومذهب سيبويه في قوله‏{‏والمؤتون‏}‏ رفع بالابتداء‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو مرفوع على إضمار مبتدأ؛ أي هم المؤتون الزكاة‏.‏ وقيل‏{‏والمقيمين‏}‏ عطف على الكاف التي في ‏}‏قبلك‏}‏‏.‏ أي من قبلك ومن قبل المقيمين‏.‏ وقيل‏{‏المقيمين‏}‏ عطف على الكاف التي في ‏}‏إليك‏}‏‏.‏ وقيل‏:‏ هو عطف على الهاء والميم، أي منهم ومن المقيمين؛ وهذه الأجوبة الثلاثة لا تجوز؛ لأن فيها عطف مظهر على مضمر مخفوض‏.‏ والجواب السادس‏:‏ ما روي أن عائشة رضي الله عنها سئلت عن هذه الآية وعن قوله‏{‏إن هذان لساحران‏}‏طه‏:‏ 63‏]‏ ، وقوله‏{‏والصابئون‏}‏ في ‏}‏المائدة‏:‏ 69‏]‏ ، فقالت للسائل‏:‏ يا ابن أخي الكتاب أخطؤوا‏.‏ وقال أبان بن عثمان‏:‏ كان الكاتب يملى عليه فيكتب فكتب ‏}‏لكن الراسخون في العلم منهم والمؤمنون‏}‏ ثم قال له‏:‏ ما أكتب ‏؟‏ فقيل له‏:‏ اكتب ‏}‏والمقيمين الصلاة‏}‏ فمن ثم وقع هذا‏.‏ قال القشيري‏:‏ وهذا المسلك باطل؛ لأن الذين جمعوا الكتاب كانوا قدوة في اللغة، فلا يظن بهم أنهم يدرجون في القرآن ما لم ينزل‏.‏ وأصح هذه الأقوال قول سيبويه وهو قول الخليل، وقول الكسائي هو اختيار القفال والطبري، والله أعلم‏.‏

 الآية رقم ‏(‏163‏)‏

‏{‏إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وعيسى وأيوب ويونس وهارون وسليمان وآتينا داود زبورا‏}‏

قوله تعالى‏{‏إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح‏}‏ هذا متصل بقوله‏{‏يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء‏}‏النساء‏:‏ 153‏]‏ ، فأعلم تعالى أن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كأمر من تقدمه من الأنبياء‏.‏ وقال ابن عباس فيما ذكره ابن إسحاق‏:‏ نزلت في قوم من اليهود - منهم سكين وعدي بن زيد - قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أوحى الله إلى أحد من بعد موسى فكذبهم الله‏.‏ والوحي إعلام في خفاء؛ يقال‏:‏ وحى إليه بالكلام يحي وحيا، وأوحى يوحي إيحاء‏.‏ ‏}‏إلى نوح‏}‏ قدمه لأنه أول نبي شرعت على لسانه الشرائع‏.‏ وقيل غير هذا؛ ذكر الزبير بن بكار حدثني أبو الحسن علي بن المغيرة عن هشام بن محمد بن السائب عن أبيه قال‏:‏ أول نبي بعثه الله تبارك وتعالى في الأرض إدريس واسمه أخنوخ؛ ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله نوح بن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وقد كان سام بن نوح نبيا، ثم انقطعت الرسل حتى بعث الله إبراهيم نبيا واتخذه خليلا؛ وهو إبراهيم بن تارخ واسم تارخ آزر، ثم بعث إسماعيل بن إبراهيم فمات بمكة، ثم إسحاق بن إبراهيم فمات بالشام، ثم لوط وإبراهيم عمه، ثم يعقوب وهو إسرائيل بن إسحاق ثم يوسف بن يعقوب ثم شعيب بن يوبب، ثم هود بن عبدالله، ثم صالح بن أسف، ثم موسى وهارون ابنا عمران، ثم أيوب ثم الخضر وهو خضرون، ثم داود بن إيشا، ثم سليمان بن داود، ثم يونس بن متى، ثم إلياس، ثم ذا الكفل واسمه عويدنا من سبط يهوذا بن يعقوب؛ قال‏:‏ وبين موسى بن عمران ومريم بنت عمران أم عيسى ألف سنة وسبعمائة سنة وليسا من سبط؛ ثم محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ قال الزبير‏:‏ كل نبي ذكر في القرآن من ولد إبراهيم غير إدريس ونوح ولوط وهود وصالح‏.‏ ولم يكن من العرب أنبياء إلا خمسة‏:‏ هود وصالح وإسماعيل وشعيب ومحمد صلى الله عليه وعليهم أجمعين؛ وإنما سموا عربا لأنه لم يتكلم بالعربية غيرهم‏.‏

قوله تعالى‏{‏والنبيين من بعده‏}‏ هذا يتناول جميع الأنبياء ثم قال‏{‏وأوحينا إلى إبراهيم‏}‏ فخص أقواما بالذكر تشريفا لهم؛ كقوله تعالى‏{‏وملائكته ورسله وجبريل ومكيال‏}‏ ثم قال‏{‏وعيسى وأيوب‏}‏ قدم عيسى على قوم كانوا قبله؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب، وأيضا فيه تخصيص عيسى ردا على اليهود‏.‏ وفي هذه الآية تنبيه على قدر نبينا صلى الله عليه وسلم وشرفه، حيث قدمه في الذكر على أنبيائه؛ ومثله قوله تعالى‏{‏وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح‏}‏الأحزاب‏:‏ 7‏]‏ ؛ ونوح مشتق من النوح؛ وقد تقدم ذكره موعبا في ‏}‏آل عمران‏}‏ وانصرف وهو اسم أعجمي؛ لأنه على ثلاثة أحرف فخف؛ فأما إبراهيم وإسماعيل وإسحاق فأعجمية وهي معرفة ولذلك لم تنصرف، وكذا يعقوب وعيسى وموسى إلا أن عيسى وموسى يجوز أن تكون الألف فيهما للتأنيث فلا ينصرفان في معرفة ولا نكرة؛ فأما يونس ويوسف فروي عن الحسن أنه قرأ ‏}‏ويونس‏}‏ بكسر النون وكذا ‏}‏يوسف‏}‏ يجعلهما من آنس وآسف، ويجب على هذا أن يصرفا ويهمزا ويكون جمعهما يآنس ويآسف‏.‏ ومن لم يهمز قال‏:‏ يونس ويوسف‏.‏ وحكى أبو زيد‏:‏ يونس ويوسف بفتح النون والسين؛ قال المهدوي‏:‏ وكأن ‏}‏يونس‏}‏ في الأصل فعل مبني للفاعل، و‏}‏يونس‏}‏ فعل مبني للمفعول، فسمي بهما‏.‏

قوله تعالى‏{‏وآتينا داود زبورا‏}‏ الزبور كتاب داود وكان مائة وخمسين سورة ليس فيها حكم ولا حلال ولا حرام، وإنما هي حكم ومواعظ‏.‏ والزبر الكتابة، والزبور بمعنى المزبور أي المكتوب، كالرسول والركوب والحلوب‏.‏ وقرأ حمزة ‏}‏زبورا‏}‏ بضم الزاي جمع زبر كفلس وفلوس، وزبر بمعنى المزبور؛ كما يقال‏:‏ هذا الدرهم ضرب الأمير أي مضروبه؛ والأصل في الكلمة التوثيق؛ يقال‏:‏ بئر مزبورة أي مطوية بالحجارة، والكتاب يسمى زبورا لقوة الوثيقة به‏.‏ وكان داود عليه السلام حسن الصوت؛ فإذا أخذ في قراءة الزبور اجتمع إليه الإنس والجن والطير والوحش لحسن صوته، وكان متواضعا يأكل من عمل يده؛ روى أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه قال‏:‏ أن كان داود صلى الله عليه وسلم ليخطب الناس وفي يده القفة من الخوص، فإذا فرغ ناولها بعض من إلى جنبه يبيعها، وكان يصنع الدروع؛ وسيأتي‏.‏ وفي الحديث‏:‏ ‏(‏الزرقة في العين يمن‏)‏ وكان داود أزرق‏.‏

 الآية رقم ‏(‏164‏)‏

‏{‏ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك وكلم الله موسى تكليما‏}‏

قوله تعالى‏{‏ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل‏}‏ يعني بمكة‏.‏ ‏}‏ورسلا‏}‏ منصوب بإضمار فعل، أي وأرسلنا رسلا؛ لأن معنى ‏}‏وأوحينا إلى نوح‏}‏ وأرسلنا نوحا‏.‏ وقيل‏:‏ هو منصوب بفعل دل عليه ‏}‏قصصناهم‏}‏ أي وقصصنا رسلا؛ ومثله ما أنشد سيبويه‏:‏

أصبحت لا أحمل السلاح ولا أملك رأس البعير إن نفرا

والذئب أخشاه إن مررت به وحدي وأخشى الرياح والمطرا

أي وأخشى الذئب‏.‏ وفي حرف أبي ‏}‏ورسل‏}‏ بالرفع على تقدير ومنهم رسل‏.‏ ثم قيل‏:‏ إن الله تعالى لما قص في كتابه بعض أسماء أنبيائه، ولم يذكر أسماء بعض، ولمن ذكر فضل على من لم يذكر‏.‏ قالت اليهود‏:‏ ذكر محمد الأنبياء ولم يذكر موسى؛ فنزلت ‏}‏وكلم الله موسى تكليما‏}‏ ‏}‏تكليما‏}‏ مصدر معناه التأكيد؛ يدل على بطلان من يقول‏:‏ خلق لنفسه كلاما في شجرة فسمعه موسى، بل هو الكلام الحقيقي الذي يكون به المتكلم متكلما‏.‏ قال النحاس‏:‏ وأجمع النحويون على أنك إذا أكدت الفعل بالمصدر لم يكن مجازا، وأنه لا يجوز في قول الشاعر‏:‏

امتلأ الحوض وقال قطني

أن يقول‏:‏ قال قولا؛ فكذا لما قال‏{‏تكليما‏}‏ وجب أن يكون كلاما على الحقيقة من الكلام الذي يعقل‏.‏ وقال وهب بن منبه‏:‏ إن موسى عليه السلام قال‏{‏يا رب بم اتخذتني كليما‏}‏ ‏؟‏ طلب العمل الذي أسعده الله به ليكثر منه؛ فقال الله تعالى له‏:‏ أتذكر إذ ند من غنمك جدي فأتبعته أكثر النهار وأتعبك، ثم أخذته وقبلته وضممته إلى صدرك وقلت له‏:‏ أتعبتني وأتعبت نفسك، ولم تغضب عليه؛ من أجل ذلك اتخذتك كليما‏.‏